سورة السجدة - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (السجدة)


        


{الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)}
قوله عزّ وجلّ: {الم * تَنزِيلُ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين * أَمْ يَقُولُونَ}. أي، بل يقولون وقيل: الميم صلة، أي أيقولون استفهام توبيخ. وقيل: هو بمعنى الواو يعني ويقولون. وقيل: فيه إضمار مجازه: فهل يؤمنون به، أَمْ يقولون: {افتراه} ثمّ قال: {بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ} أي لم يأتهم {مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ}.
قال قتادة: كانوا أُمّةً أُمّيّة لم يأتهم نذير قبل محمّد صلى الله عليه وسلم. قال ابن عبّاس ومقاتل: ذلك في الفترة التي كانت بين عيسى ومحمّد عليهما السلام.
{لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ * يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض} أي ينزل الوحي مع جبرائيل من السماء إلى الأرض {ثُمَّ يَعْرُجُ} يصعد {إِلَيْهِ} جبرائيل بالأمر في يوم واحد من أيّام الدُّنيا، وَقَدْرُ مسيرِهِ ألف سنة، خمسمائة نزوله من السماء إلى الأرض، وخمسمائة صعوده من الأرض إلى السماء. وما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة سنة يقول: لو ساره أحد من بني آدم لم يسره إلاّ في ألف سنة، والملائكة يقطعون هذه المسافة بيوم واحد، فعلى هذا التأويل نزلت الآية في وصف مقدار عروج الملائكة من الأرض إلى السماء، ونزولهم من السماء إلى الأرض، وأمّا قوله: {تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] فإنّه أراد مدّة المسافة من الأرض إلى سدرة المنتهى التي فيها مقام جبرائيل عليه السلام.
يقول: يسير جبرائيل والملائكة الذين معه من أهل مقامهِ مسيرة خمسين ألف سنة في يوم واحد من أيّام الدنيا، وهذا كلّه معنى قول مجاهد وقتادة والضحّاك، وأمّا معنى قوله: {إِلَيْهِ} على هذا التأويل فإنّه يعني إلى مكان الملك الذي أمره الله أنْ يعرج إليه، كقول إبراهيم عليه السلام {إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي} [الصافات: 99] وإنّما أراد أرض الشام. وقال: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ} أي إلى المدينة، ولم يكن الله تعالى بالمدينة ولا بالشام.
أخبرني ابن فنجويه، عن هارون بن محمد بن هارون، عن حازم بن يحيى الحلواني، عن محمد بن المتوكل، عن عمرو بن أبي سلمة، عن صدقة بن عبدالله عن موسى بن عقبة، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني ملك برسالة من الله عزّ وجلّ، ثمّ رفع رجله فوضعها فوق السماء، والاُخرى في الأرض لم يرفعها». وقال بعضهم معناه: يُدَّبِرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلى الأرض مدّة أيّام الدنيا، ثمّ يَعْرُجُ إليه الأمر والتدبير، ويرجع يعود إليه بعد انقضاء الدنيا وفنائها {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} وهو يوم القيامة.
وأمّا قوله: {خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] فإنّه أراد على الكافر، جعل الله ذلك اليوم عليه مقدار خمسين ألف سنة، وعلى المؤمن كقدر صلاة مكتوبة صلاّها في دار الدنيا. ويجوز أن يكون ليوم القيامة أوّل وليس له آخر وفيه أوقات شتّى بعضها ألف سنة وبعضها خمسين ألف سنة. ويجوز أن يكون هذا إخبار عن شدّتهِ وهوله ومشقّته لاِنّ العرب تصف أيّام المكروه بالطّول وأيّام السرور بالقصر، وإلى هذا التأويل ذهب جماعة من المفسِّرين.
وروى عبد الرزاق عن ابن جريح قال: أخبرني ابن أبي مليكة قال: دخلت أنا وعبدالله بن فيروز مولى عثمان بن عفّان على ابن عبّاس فسأله ابن فيروز عن هذه الآية، فقال له ابن عبّاس: مَنْ أنت؟ قال: أنا عبدالله بن فيروز مولى عثمان بن عفّان، فقال عبدالله بن عبّاس: أيّام سمّاها الله لا أدري ما هي، وأكره أنْ أقول في كتاب الله ما لا أعلم. قال ابن أبي مليكة: فضرب الدهر حتّى دخلتُ على سعيد بن المسيّب فسئل عنها فلم يدر ما يقول، فقلت له: ألا أخبرك ما حضرتُ مِن ابن عبّاس، فأخبرته، فقال ابن المسيب للسائل: هذا ابن عبّاس قد اتّقى أنْ يقول فيها وهو أعلم منّي.
قوله: {ذلك عَالِمُ الغيب والشهادة العزيز الرحيم * الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} قرأ نافع وأهل الكوفة {خَلَقه} بفتح اللاّم على الفعل، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ثمّ قالا: لسهولتها في المعنى وهي قراءة سعيد بن المسيب. وقرأ الآخرون بسكون اللام. قال الأخفش: هو على البدل ومجازه: الذي أحسَنَ خلقَ كلِّ شيء.
قال ابن عبّاس: أتقنه وأحكمه، ثمّ قال: أما إنَّ أست القرد ليست بحسنة ولكنّه أحكم خلقها. وقال قتادة: حسنُه. مقاتل: علم كيف يخلق كلّ شيء، من قولك فلان يحسن كذا إذا كان يعلمه.
{وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان} يعني آدم عليه السلام {مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ} ذريته {مِن سُلاَلَةٍ} من نطفة، سمّيت بذلك لاِنّها تنسل من الإنسان، أي تخرج، ومنه قيل للولد: سلالة. وقال ابن عبّاس: وهي صفو الماء {مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} ضعيف {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ * وقالوا} يعني منكري البعث، {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض} أي أُهلكنا وبطلنا وصرنا تراباً، وأصله من قول العرب: ضلّ الماء في اللبن إذا ذهب، ويقال: أضللت الميّت أي دفنته. قال الشاعر:
وأب مُضلوهُ بغيرِ جَلية *** وغُودر بالجولان جرم ونائل
وقرأ ابن محيصن بكسر اللام {ضللنا} وهي لغة. وقرأ الحسن والأعمش {ضَلَلْنَا} بالصاد غير معجمة أي أَنتنّا، وهي قراءة عليّ رضي الله عنه.
أخبرنا ابن فنجويه عن ابن شنبه قال: أخبرني أبو حامد المستملي، عن محمد بن حاتم الكرخي أبو عثمان النحوي، عن المسيب بن شريك، عن عبيدة الضبي، عن رجل، عن علي أنّه قرأ أَءِذَا ضللنا أي أنتنّا. قال محمّد بن حاتم: يقال: صلَّ اللّحم وأصل إذا أنتن.
{أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} قال الله: {بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ}.
قوله عزّ وجلّ: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم} بقبض أرواحكم {مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ} قال مجاهد: حويت له الأرض فجُعلت له مثل طست يتناول منها حيث يشاء، وقال مقاتل والكلبي: بلغنا أنَّ اسم ملك الموت عزرائيل وله أربعة أجنحة: جناح له بالمشرق، وجناح له بالمغرب، وجناح له في أقصى العالم من حيث يجيء ريح الصبا، وجناح من الأفق الآخر. ورجل له بالمشرق، والأخرى بالمغرب، والخلق بين رجليه، ورأسه وجسده كما بين السماء والأرض، وجُعلت له الدنيا مثل راحة اليد، صاحبها يأخذ منها ما أَحبّ في غير مشقة ولا عناء، أي مثل اللّبنة بين يديه فهو يقبض أنْفُس الخلق في مشارق الأرض ومغاربها، وله أعوان من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب.
وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين عن عبدالله بن يوسف بن أحمد بن مالك عن الخطّاب بن أحمد بن عيسى قال: أخبرني أبو نافع أحمد بن كثير، عن كثير بن هشام، عن جعفر بن برقان، عن يزيد بن الأصم عن ابن عبّاس قال: إنّ خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب.
وأخبرنا الحسين بن محمد، عن عبدالله بن يوسف، عن عبد الرحيم بن محمد، عن سلمة ابن شبيب، عن الوليد بن سلمة الدمشقي، عن ثور بن يزيد عن خالد بن معد، عن معاذ بن جبل قال: إنّ لملك الموت حربة تبلغ ما بين المشرق والمغرب، وهو يتصفّح وجوه الناس، فما من أهل بيت إلاّ وملك الموت يتفحّصهم في كلّ يوم مرّتين، فإذا رأى إنساناً قد انقضى أجله ضرب رأسه بتلك الحربة، وقال: الآن يزار بك عسكر الأموات.
وأخبرنا الحسين بن محمد قال: أخبرني أبو بكر بن مالك القطيعي، عن عبدالله بن أحمد ابن حنبل، عن أَبي، عن عبدالله بن نميرة عن الأعمش عن خيثمة وعن شهر بن حوشب قال: دخل ملك الموت على سليمان، فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم إليه النظر، فلمّا خرج قال الرجل: من هذا؟ قال: هذا ملك الموت، قال: لقد رأيته ينظر إليَّ كأنّه يريدني، قال: فما تريد؟ قال: أريد أن تحملني على الريح فتلقيني بالهند، فدعا بالريح فحملته عليها فألقته بالهند، ثمّ أتى ملك الموت سليمان عليه السلام فقال: إنّك كنت تديم النظر إلى رجل من جلسائي، قال: كنتُ أعجبُ منه إنّي أُمرت أنْ أقبضَ روحه بالهند وهو عندك.
فإن قيل: ما الجامع بين قوله: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] و{تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة} [النحل: 28] و{قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت} [السجدة: 11] وقوله: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] و{وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم بالليل} [الأنعام: 60].
قيل: تَوفّي الملائكة: القبض والنزع. وتوفّي ملك الموت: الدعاء والأمر، يدعو الأرواح فتجيبه ثمّ يأمر أعوانه بقبضها، وتوفّي الله سبحانه: خلق الموت، والله أعلم.


{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)}
قوله تعالى: {وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ} أي مطأطئوا رؤوسهم {عِندَ رَبِّهِمْ} حياءً منه للذي سلف من معاصيهم في الدنيا يقولون: {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا} ماكنّا بِهِ مكذِّبين {وَسَمِعْنَا} منك تصديق ما أتتنا به رسلك {فارجعنا} فأرددنا إلى الدنيا {نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} وجواب لو مضمر مجازه: لرأيت العجب {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} رشدها وتوفيقها للإيمان {ولكن حَقَّ} وجب وسبق {القول مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} وهو قوله لأبليس {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85]. ثمّ يقال لأهل النار: {فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هاذآ} أي تركتم الإيمان به {إِنَّا نَسِينَاكُمْ} تركناكم في النار {وَذُوقُواْ عَذَابَ الخلد بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون}.
أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه، عن أحمد بن الحسن بن ماجة القزويني، عن الحسن ابن أيّوب القزويني، عن عبدالله بن أبي زياد القطواني، عن سيار حماد الصفار، عن حجاج الأسود، عن جبلة، عن مولى له، عن كعب قال: إذا كان يوم القيامة يقوم الملائكة فيشفعون، ثمّ يقوم الأنبياء فيشفعون، ثمّ يقوم الشهداء فيشفعون ثمّ يقوم المؤمنون فيشفعون. حتّى انصرمت الشفاعة كلّها فلم يبق أحد، خرجت الرحمة، فتقول: ياربِّ أنا الرحمة فشفّعني، فيقول: قد شفّعتكِ، فتقول: ياربّ فيمَن؟ فيقول: في مَن ذكرني في مقام وخافني فيه أو رجاني أو دعاني دعوة واحدة خافني أو رجاني فأخرجيه، قال: فيخرجون فلا يبقى في النار أحد يعبأ الله به شيئاً، ثمّ يعظم أهلها بها، ثمّ يأمر بالنار فتقبض عليهم فلا يدخل فيها رَوح أبداً، ولا يخرج منها غمٌّ أبداً وقيل: {اليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا} [الجاثية: 34].
{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الذين إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} عن الإيمان به والسجود له. {تتجافى} أي ترتفع وتنتحي، وهو تفاعل من الجفا، والجفا: التبوّء والتباعد، تقول العرب: جاف ظهرك عن الجدار، وجفت عين فلان عن الغمض إذا لم تنم. {جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع}.
أخبرني أبو عبدالله الحسين بن محمد بن الحسن قال: أخبرني أبو عمرو عثمان بن أحمد ابن سمعان الوزان، عن عبدالله بن قحطبة بن مرزوق، عن محمد بن موسى الحرشي، عن الحرث بن وحيه الراسبي قال: سمعت مالك بن دينار يقول: سألت أنس بن مالك عن قول الله تعالى: {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع}، فقال أنس: كان أُناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلّون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الآخرة، فأنزل الله تعالى: {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع}.
أخبرني الحسين بن محمد عن موسى بن محمد، عن الحسن بن محمد، عن موسى بن محمد عن الحسن بن علويه، عن إسماعيل بن عيسى، عن المسيب، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتاده، عن أنس بن مالك قال: نزلت فينا معاشر الأنصار: {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع} الآية، كنّا نصلّي المغرب، فلا نرجع إلى رحالنا حتّى نصلّي العشاء مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم.
وأخبرنا الحسين بن محمد عن عبدالله بن إبراهيم بن علي بن عبدالله، عن عبدالله بن محمد بن وهب، عن محمد بن حميد، عن يحيى بن الضريس، عن النضر بن حميد، عن سعيد، عن الشعبي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عقّب ما بين المغرب والعشاء بُني له في الجنّة قصران ما بينهما مسيرة مائة عام، وفيهما من الشجر، ما لو نزلها أهل المشرق وأهل المغرب لأوسعتهم فاكهة، وهي صلاة الأوّابين وغفلة الغافلين، وإنّ من الدعاء المستجاب الذي لا يرد الدعاء ما بين المغرب والعشاء».
وقال عطاء: يعني يصلّون صلاة العتمة لا ينامون عنها، يدلّ عليها ما أنبأني عبدالله بن حامد، عن عبدالصمد بن الحسن بن علي بن مكرم، عن السري بن سهل، عن عبدالله بن رشيد قال: أنبأني أبو عبيدة مجاعة بن الزبير، عن أبان قال: جاءت امرأة إلى أنس بن مالك، فقالت: إنّي أنام قبل العشاء. فقال: لا تنامي. فإنّ هذه الآية نزلت في الذين لا ينامون قبل العشاء الآخرة {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع}. وقال أبو العالية والحسن ومجاهد وابن زيد: هو التهجّد وقيام الليل، ودليل هذا التأويل ما أخبرنا أبو عبدالله بن فنجويه عن أبي بكر بن مالك القطيعي، عن عبدالله بن أحمد بن حنبل عن أَبي عن زيد بن الحبّاب، عن حمّاد بن سلمة، عن عاصم، عن شهر بن حوشب، عن معاذ، عن النبي صلى الله عليه وسلم: {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع} {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} قال: قيام العبد في الليل.
وأخبرنا عبدالله بن حامد الأصفهاني، عن محمّد بن عبدالله بن عبد الواحد الهمداني، عن إسحاق بن إبراهيم الدبري، عن عبد الرزاق بن معمر، عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل، عن معاذ قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصبحت قريباً منه ونحن نسير، فقلت: يا نبيّ الله ألا تخبرني بعمل يدخلني الجنّة، ويباعدني من النار؟ قال: يا معاذ، لقد سألت عن عظيم، وإنّه ليسير على من يسّرهُ الله عليه، تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت. ثمّ قال: ألاَ أدلُّك على أبواب الخير. الصوم جُنّة من النار والصدقة تطفئ غضب الربّ وصلاة الرجل في جوف الليل ثمّ قرأ {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع} حتّى بلغ {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ثمّ قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كلّه. فقلتُ: بلى يا رسول الله. فأخذ بلسانه. فقال: «اكفف، عليك هذا».
فقلت: يا رسول الله وإنّا لمؤاخذون بما نتكلّم؟ فقال: «ثكلتك أُمّك يا معاذ وهل يكبّ الناس في النّار على وجوههم أو على مناخرهم إلاّ حصائد ألسنتهم».
وقال الضحّاك: هو أنْ يصلّي الرجل العشاء والغداة في جماعة.
أخبرني الحسين بن فنجويه عن أحمد بن الحسين بن ماجة قال: أخبرني أبو عوانة الكوفي بالري عن منجاب بن الحرث عن علي بن مسهر عن عبدالرحمن بن إسحاق عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا جمع الله الأوّلين والآخرين يوم القيامة جاء مناد فنادى بصوت يُسمع الخلائق كلّهم: سيعلمُ أهل الجمع اليوم مَنْ أولى بالكرم، ثمّ يرجع فينادي: ليقم الذين كانت تَتَجافَى جُنُوبُهُم عَنِ المَضَاجِعِ فيقومون وهم قليل، ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانوا يحمدون الله في البأساء والضراء. فيقومون وهم قليل، فيسرحون جميعاً إلى الجنّة ثمّ يحاسب سائر الناس».
{يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} أي خُبّئ لهم، هذه قراءة العامّة. وقرأ حمزة ويعقوب أُخفي مرسلة الياء أي: أنا أخفي وحجّتهما قراءة عبدالله: نُخفي بالنون. وقرأ محمّد بن كعب: أخْفى بالألف يعني: أخفى الله من قرّة أعين، قراءة العامّة على التوحيد.
أخبرنا عبدالله بن حامد الوزان، عن مكي بن عبدان، عن عبدالله بن هاشم قال: أخبرني أبو معاوية عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بله ما قد أطلعتكم عليه، اقرأوا إن شئتم فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِي لَهُمْ مِنْ قُرَّاتَ أَعْيُن». {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}
قال: وكان أبو هريرة يقرأ. هكذا: قرّات أعين. وقال ابن مسعود: إنّ في التوراة مكتوباً: لقد أعد الله للّذين تَتَجَافَى جُنوُبُهُم عَنِ المَضَاجِع ما لم تَرَ عين ولم تسمع أُذن ولا يخطر على قلب بشر وما لا يعلمه ملك مقرّب، وإنّه لفي القرآن {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} الآية.
قوله: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ} الآية نزلت في عليّ بن أبي طالب والوليد بن عقبة بن أبي معيط أخي عثمان لأُمِّهِ وذلك أنّه كان بينهما تنازع وكلام في شيء، فقال الوليد لعلي: أُسكت فإنّك صبيّ، وأنا والله أبسط منك لساناً وأَحَدُّ منك سناناً، وأشجع جناناً، وأملأُ منك حشواً في الكتيبة، فقال له علي: اسكت فإنّك فاسق، فأنزل الله عزّ وجلّ: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ} ولم يقل يستويان، لأنّه لم يرد بالمؤمن مؤمناً واحداً، وبالفاسق فاسقاً واحداً، وإنّما أراد جميع الفسّاق وجميع المؤمنين.
قال الفرّاء: إنّ الاثنين إذا لم يكونا مصمودَين لهما ذُهب بهما مذهب الجمع.
ثمّ ذكر حال الفريقين ومآلهما، فقال عزّ من قائل: {أَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ جَنَّاتُ المأوى نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النار كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ العذاب الأدنى دُونَ العذاب الأكبر لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}
قال أُبي بن كعب وأبو العالية والضحّاك والحسن وإبراهيم: العذاب الأَدنى مصائب الدنيا وأسقامها وبلاؤها ممّا يبتلي الله به العباد حتّى يتوبوا، وهذه رواية الوالبي عن ابن عبّاس. عكرمة عنه: الحدود. عبدالله بن مسعود والحسن بن علي وعبدالله بن الحرث: القتل بالسيف يوم بدر. مقاتل: الجوع سبع سنين بمكّة حتّى أكلوا الجيف والعظام والكلاب. مجاهد: عذاب القبر. قالوا: والْعَذابِ الاْكْبَرِ، يوم القيامة {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عن كفرهم.
قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ إِنَّا مِنَ المجرمين} المشركين {مُنتَقِمُونَ} قال زيد بن رفيع: عنى بالمجرمين هاهنا أصحاب القَدَر ثمّ قرأ {إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47] إلى قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] وأخبرنا الحسين بن محمد، عن أحمد ابن محمد بن إسحاق السني قال: أخبرني جماهر بن محمد الدمشقي، عن هشام بن عمّار، عن إسماعيل بن عياش، عن عبد العزيز بن عبدالله، عن عبادة بن سني، عن جنادة بن أبي أمية، عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ثلاث من فعلهن فقد أجرم: من اعتقد لواء في غير حقّ، أو عَقَّ والديه، أو مشى مع ظالم لينصره فقد أجرم. يقول الله تعالى: إِنَّا مِنَ المُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ».


{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)}
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ} ليلة المعراج. عن ابن عبّاس، وقال السدّي: من تلقّيه كتاب الله تعالى بالرضا والقبول. قال أهل المعاني: لم يرد باللقاء الرؤية وإنّما أراد مباشرته الحال وتبليغه رسالة الله عزّ وجلّ وقبول كتاب الله. وقيل: من لقاء الله الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره.
{وَجَعَلْنَاهُ} يعني الكتاب، وقال قتادة: موسى {هُدًى لبني إِسْرَائِيلَ * وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً} قادة في الخير يقتدى بهم {يَهْدُونَ} يدعون {بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ} قرأ حمزة والكسائي {لَمَّا} بكسر اللام وتخفيف الميم أي لصبرهم، واختاره أبو عبيد اعتباراً بقراءة عبدالله {لَمَّا صَبَرُواْ} وقرأ الباقون بفتح اللام وتشديد الميم أي حين صبروا.
{وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ} يقضي بينهم. ويُسمّي أهل اليمن القاضي الفيصل {يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ} آيات الله وعظاته فيتّعظون بها.
قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ المآء إِلَى الأرض الجرز} أي اليابسة المغبرة: الغليظة التي لا نبات فيها. وأصله من قولهم: ناقةٌ جراز إذا كانت تأكل كلّ شيء تجده، ورجل جروز، إذا كان أكولاً. قال الراجز:
خبّ جروز وإذا جاع بكى *** ويأكل التمر ولا يلقي النوى
وسيفٌ جراز أي قاطع، جَرزِت الجراد الزرع إذا استأصلته، فكأن الجرز هي الأرض التي لا يبقى على ظهرها شيء إلاّ أفسدته، وفيه أربع لغات: جُرز وجَرُز وجَرْزَ وجَرَز.
قال ابن عبّاس: هي أرض باليمن. قال مجاهد: هي أبين {فَنُخْرِجُ} فننبت {بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ * وَيَقُولُونَ متى هذا الفتح إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} قال بعضهم: أراد بيوم الفتح يوم القيامة الذي فيه الثواب والعقاب والحكم بين العباد.
قال قتادة: قال أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم: إنّ لنا يوماً ننعم فيه ونستريح ويحكم بيننا وبينكم، فقال الكفّار استهزاءً: متى هذا الفتح؟ أي القضاء والحكم.
قال الكلبي: يعني فتح مكّة. وقال السدي: يعني يوم بدر، لاِنَّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه كانوا يقولون لهم: إنّ الله ناصرنا ومُظهرنا عليكم.
{قُلْ يَوْمَ الفتح} يوم القيامة {لاَ يَنفَعُ الذين كفروا إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} وَمَن تأوّل النصر قال: لا ينفعهم إيمانُهم إذا جاءهم العذاب وقتلوا.
{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وانتظر إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ} قراءة العامّة {مُّنتَظِرُونَ} بكسر الظاء. وقرأ محمد بن السميقع بفتح الظاء، قال الفرّاء: لا يصحّ هذا إلاّ بإضمار مجازه: إنّهم منتظرون ربّهم، قال أبو حاتم: الصحيح كسر الظاء لقوله: {فارتقب إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ} [الدخان: 59].